فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{ولا تقربوا مال اليتيم} هذا نهي عن القرب الذي يعم جميع وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة.
{إلا بالتي هي أحسن} أي بالخصلة التي هي أحسن في حق اليتيم ولم يأت إلا بالتي هي حسنة، بل جاء بأفعل التفضيل مراعاة لمال اليتيم وأنه لا يكفي فيه الحالة الحسنة بل الخصلة الحسنى وأموال الناس ممنوع من قربانها، ونص على {اليتيم} لأن الطمع فيه أكثر لضعفه وقلة مراعاته.
قال ابن عباس وابن زيد {التي هي أحسن} التجارة فمن كان من الناظرين له مال يعيش به فالأحسن إذ أثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها، ومن كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه أنفق من ربح نظره.
وقيل: الانتفاع بدوابه واستخدام جواريه لئلا يخرج الأولياء بالمخالطة ذكره المروزي.
وقيل لا يأكل منه إلا قرضًا وهذا بعيد وأي أحسنية في هذا.
{حتى يبلغ أشده} هذه غاية من حيث المعنى لا من حيث هذا التركيب اللفظي، ومعناه احفظوا على اليتيم ماله إلى بلوغ أشده فادفعوه إليه.
وبلوغ الأشد هنا لليتيم هو بلوغ الحلم قاله الشعبي وزيد بن أسلم ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك.
وحكى ابن عطية عن الشعبي وربيعة ومالك وأبي حنيفة إنه البلوغ مع أنه لا يثبت فسقه وقد نقل في تفسير الأشد أقوال لا يمكن أن تجيء هنا وكأنها نقلت في قوله: {ولما يبلغ أشده} فعن ابن عباس ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين وعنه ثلاث وثلاثون، وعن ابن جبير ومقاتل ثماني عشرة وعن السدي ثلاثون وعن الثوري أربع وثلاثون، وعن عكرمة خمس وعشرون وعن عائشة أربعون وعن أبي العالية عقله واجتماع قوته، وعن بعضهم من خمسة عشر إلى ثلاثين وعن بعضهم ستون سنة ذكره البغوي.
وأشد جمع شدة أو شد أو شد أو جمع لا واحد له من لفظه أو مفرد لا جمع له أقوال خمسة، اختار ابن الأنباري في آخرين الأخير وليس بمختار لفقدان أفعل في المفردات وضعًا وأشد مشتق من الشدة وهي القوة والجلادة.
وقيل: أصله الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع.
قال عنترة:
عهدي به شد النهار كأنما ** خضب اللبان ورأسه بالعظلم

{وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} أي بالعدل والتسوية.
وقيل: القسط هنا أدنى زيادة ليخرج بها عن العهدة بيقين لما روي: «إذا وزنتم فأرجحوا».
{لا نكلف نفسًا إلا وسعها} أي إلا ما يسعها ولا تعجز عنه، ولما كانت مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان يجري فيها الحرج ذكر بلوغ الوسع وإن ما وراءه معفو عنه، فالواجب في إيفاء الكيل والميزان هو القدر الممكن وأما التحقيق فغير واجب قال معناه الطبري.
وقيل: المعنى لا نكلف ما فيه تلفه وإن جاز كقوله: {أن اقتلوا أنفسكم} فعلى هذا لا يكون راجعًا إلى إيفاء الكيل والميزان، ولذلك قال ابن عطية: يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف فيه.
{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} أي ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة للقائل فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص، ويدخل في ذي القربى نفس القائل ووالداه وأقربوه فهو ينظر إلى قوله: {ولو على أنفسكم} أو الوالدين والأقربين، وعنى بالقول هنا ما لا يطلع عليه إلا بالقول من أمر وحكم وشهادة زجر ووساطة بين الناس وغير ذلك لكونها منوطة بالقول، وتخصيصه بالحكم أو بالأمر أو بالشهادة أقوال لا دليل عليها على التخصيص.
{وبعهد الله أوفوا} ويحتمل أن يكون مضافًا إلى الفاعل أي بما عهدكم الله عليه أوفوا وأن يكون مضافًا إلى المفعول أي بما عهدتم الله عليه.
وقيل: يحتمل أن يراد به العهد بين الإنسانين وتكون إضافته إلى الله تعالى من حيث أمر بحفظه والوفاء به.
قال الماتريدي: أمره ونهيه في التحليل والتحريم.
وقال التبريزي بعهده يوم الميثاق.
وقال ابن الجوزي: يشمل ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره.
{ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} ولما كانت الخمسة المذكورة قبل هذا من الأمور الظاهرة الجلية وجب تعلقها وتفهمها فختمت بقوله: {لعلكم تعقلون} وهذه الأربعة خفية غامضة لابد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله: {لعلكم تذكرون}.
وقرأ حفص والأخوان {تذكرون} حيث وقع بتخفيف الذال حذفت التاء إذ أصله تتذكرون، وفي المحذوف خلاف أهي تاء المضارعة أو تاء تفعل.
وقرأ باقي السبعة {تذكرون} بتشديده أدغم تاء تفعل في الذال. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} توجيهُ النهي إلى قُربانه من المبالغة في النهي عن أكله ولإخراج القُربان النافعِ عن حكم النهي بطرق الاستثناءِ، أي لا تتعرضواله بوجه من الوجوه {إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} إلا بالخَصلة التي هي أحسنُ ما يكون من الحِفظ والتثميرِ ونحو ذلك، والخطابُ للأولياء والأوصياء لقوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فإنه غايةٌ لما يُفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل: احفظوه حتى يصيرَ بالغًا رشيدًا فحينئذ سلّموه إليه كما في قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ} والأشُدُّ جمع شِدّة كنعمة وأنعم أو شَدّ ككلب وأكلُب أو شد كصر وآصر وقيل: هو مفرد كآنُك {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} أي بالعدل والتسوية {لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} إلا ما يسعُها ولا يعسُر عليها، وهو اعتراضٌ جيء به عَقيبَ الأمرِ بالأمر للإيذان بأن مراعاةَ العدلِ كما هو عسيرٌ كأنه قيل: عليكم بما في وسعكم وما وراءه معفوٌّ عنكم {وَإِذَا قُلْتُمْ} قولًا في حكومة أو شهادة أو نحوِهما {فاعدلوا} فيه {وَلَوْ كَانَ} أي المقولُ له أو عليه {ذَا قربى} أي ذا قرابةٍ منكم ولا تميلوا نحوهم أصلاٌ وقد مر تحقيق معنى لو في مثل هذا الموضعِ مرارًا {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} أي ما عَهد إليكم من الأمور المعدودةِ، أو أيِّ عهدٍ كان فيدخُل فيه ما ذُكر دخولًا أوليًا أو ما عاهدتم الله عليه من الإيمان والنذور، وتقديمُه للاعتناء بشأنه {ذلكم} إشارةٌ إلى ما فُصِّل من التكاليف، ومعنى البُعد لما ذكر فيما قبل {وصاكم بِهِ} أمركم به أمرًا مؤكدًا {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتذكرون ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه، وقرئ بتشديد الذالِ وهذه أحكامٌ عشَرةٌ لا تختلف باختلاف الأممِ والأعصارِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه {إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره، وقيل: المراد لا تقربوا ماله إلا وأنتم متصفون بالخصلة التي هي أحسن الخصال في مصلحته فمن لم يجد نفسه على أحسن الخصال ينبغي أن لا يقربه وفيه بعد؛ والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فإنه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل: احفظوه حتى يبلغ فإذا بلغ فسلموه إليه كما في قوله سبحانه: {فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا اليهم بأموالهم} [النساء: 6] والأشد على ما قال الفراء جمع لا واحد له.
وقال بعض البصريين: هو مفرد كآنك ولم يأت في المفردات على هذا الوزن غيرهما.
وقيل: هو جمع شدة كنعمة وأنعم، وقدر فيه زيادة الهاء لكثرة جمع فعل على أفعل كقدح وأقدح.
وقال ابن الأنباري: إنه جمع شد بضم الشين كود واود.
وقيل: جمع شد بفتحها.
وأيًا ما كان فهو من الشدة أي القوة أو الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع.
ومنه قول عنترة:
عهدي به شد النهار كأنما ** خضب البنان ورأسه بالعظلم

والمراد ببلوغ الأشد عند الشعبي وجماعة: بلوغ الحلم.
وقيل: أن يبلغ ثماني عشرة سنة، وقال السدي: أن يبلغ ثلاثين إلا أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} [النساء: 6] وقيل: غير ذلك.
وقد تقدم الخلاف في زمن دفع مال اليتيم إليه وأشبعنا الكلام في تحقيق الحق في ذلك فتذكر.
{وَأَوْفُوا} أي أتموا {الكيل} أي المكيل فهو مصدر بمعنى اسم المفعول {والميزان} كذلك كما قال أبو البقاء وجوز أن يكون هناك مضاف محذوف أي مكيل الكيل وموزون الميزان {بالقسط} أي بالعدل وهو في موضع الحال من ضمير {أَوْفُواْ} أي مقسطين.
وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حالًا من المفعول أي تامًا.
ولعل الإتيان بهذه الحال للتأكيد.
وفي التفسير الكبير فإن قيل: إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة من التكرير؟ قلنا: أمر الله تعالى المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة فتدبر.
{لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} إلا ما يسعها ولا يعسر عليها.
والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل للترخيص فيما خرج عن الطاقة لما أن في مراعاة ذلك كما هو حرجًا مع كثرة وقوعه فكأنه قيل: عليكم بما في وسعكم في هذا الأمر وما وراءه معفو عنكم.
وجوز أن يكون جيء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات ليقبلوا عليها كأنه قيل: جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف ما لا يطاق.
{وَإِذَا قُلْتُمْ} قولًا في حكومة أو شهادة أو نحوهما {فاعدلوا} فيه وقولوا الحق {وَلَوْ كَانَ} المقول له أو عليه {ذَا قربى} أي صاحب قرابة منكم {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} أي ما عهد إليكم من الأمور المعدودة أو أي عهد كان فيدخل فيه ما ذكر دخولًا أوليًا أو ما عاهدتم الله تعالى عليه من أيمانكم ونذوركم.
والجار والمجرور متعلق بما بعده، وتقديمه للاعتناء بشأنه {ذلكم} أي ما فصل من التكاليف الجليلة {وصاكم بِهِ} أمركم به أمرا مؤكدا {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {تَذَكَّرُونَ} بتخفيف الذال والباقون بالتشديد في كل القرآن وهما بمعنى واحد.
وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] وهذه بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها.
وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان؛ قاله القطب الرازي، ثم قال فإن قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضًا فكيف ذكر من الأول؟ قلت: أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة الأبوين تنبيهًا على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر.
وقال الإمام: السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى أمور ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لابد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر انتهى.
ويمكن أن يقال: إن أكثر التكليفات الأول أُدِّي بصيغة النهي وهو في معنى المنع والمرء حريص على ما منع فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس وهذا بخلاف التكليفات الأُخر فإن أكثرها قد أُدِّي بصيغة الأمر وليس المنع فيه ظاهرًا كما في النهي فيكون تأكيد الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي فليتدبر. اهـ.

.قال القاسمي:

قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} أي: بوجه من الوجوه: {إِلَّا بِالَّتِي} أي: بالخصلة التي: {هِيَ أَحْسَنُ} يعني أنفع له. كتثميره أو حفظه أو أخذه قرضًا. لا بأكله، وإنفاقه في مآربكم وإتلافه، فإنه أفحش. وقد ذكرنا طرفًا فيما رخص فيه لوليّ اليتيم أو وصيه في قوله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ} الآية، و: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء 10] الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة 220] فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه. قيل: إنما خص تعالى مال اليتيم بالذكر، لكونه لا يدفع عن نفسه ولا عن ماله هو ولا غيره. فكانت الأطماع في ماله أشد. فعزم في النهي عنه لأنه حماه ومقدمته، وأمر بتنميته {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي: قوته التي يقر بها على حفظه واستنمائه، وهذا غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي، كأنه قيل: احفظوه حتى يصير بالغًا رشيدًا. فحينئذ سلموه إليه كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. والأشد جمع (شدة) كنعمةً وأنعم، أو شَدّ ككلب وأكلب، أو شد كصِرّ وآصُر. وقيل هو مفرد كآنك: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل والتسوية في الأخذ والإعطاء. وقد توعد تعالى على تركه في قوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1- 6].
قال ابن كثير: وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال. روى الترمذي عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم وليتم أمرين هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم». ثم ضعفه وصحح وقفة على ابن عباس. وروى نحوه ابن مردويه مرفوعًا، ولفظه: «إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين، بهما هلكت القرون المتقدمة: بالمكيال والميزان».
{لا نُكَلِّفُ نَفْسًا} أي: عند الكيل والوزن: {إِلَّا وُسْعَهَا} أي: جهدها بالعدل. وهذا الاعتراض جيء به عقيب الأمر بالعدل، لبيان أن مراعاة الحدّ من القسط، الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، مما يجري فيه الحرج، لصعوبة رعايته. فأمر ببلوغ الوسع، وأن الذي ما وراءه معفوّ عنه. وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}: من أوفى على يده في الكيل والميزان، والله أعلم بصحة نيته بالوفاء فيهما، لم يؤاخذ».
قال ابن المسيّب: وذلك تأويل {وسعها}.
قال ابن كثير: هذا غريب.
وفي العناية: يحتمل رجوع قوله تعالى: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} إلى ما تقدم. أي: جميع ما كلفناكم ممكن، ونحن لا نكلف ما لا يطاق. انتهى. والأول أولى.
{وَإِذَا قُلْتُمْ} أي: في حكومة أو شهادة ونحوهما: {فَاعْدِلُوا} أي: فيها أي: لا تقولوا الحق: {وَلَوْ كَانَ} أي: المقول له أو عليه: {ذَا قُرْبَى} أي: ذا قرابة منكم. فلا تميلوا في القول له أو عليه، إلى زيادة أو نقصان.
قال بعض الزيدية: معنى قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ} أي: اصدقوا في مقالتكم. قال: وهذه اللفظة من الأمور العجيبة في عذوبة لفظها وقلة حروفها وجمعها لأمور كثيرة من الإقرار والشهادة والوصايا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفتاوى والأحكام والمذاهب.
ثم إنه تعالى أكد ذلك، وبين أنه يلزم العدل في القول، ولو كان المقول له ذا قربى. كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء 135].
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} أي: ما عهد إليكم من الأمور المعدودة، أو أي: عهد كان. فيدخل فيه ما ذكر دخولًا أوليًّا. أو ما عاهدتم الله عليه من الأيمان والنذور: {ذَلِكُمْ} إشارة إلى ما ذكر في هذه الآيات: {وَصَّاكُمْ بِهِ} أي: أمركم بالعمل به في الكتاب: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: تتعظون. وفي قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} تأكيد آخر. اهـ.